فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانوا مقرين بأن الخلق خلقه والأمر أمره، عارفين بأنه لا يلي وال من قبل ملك من الملوك إلا بحجة منه يقيمها على أهل البلدة التي أرسل إليها أو ناب فيها، ولا يشفع شفيع فيهم إلا وله إليه وسيلة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في قوله: {أفلا تتذكرون} أي تذكرًا عظيمًا بما أشار إليه الإظهار ما تعلمونه من أنه الخالق وحده، ومن أنه لا حجة لشيء مما أشركتموه بشيء مما أهلتموه له ولا وسيلة لشيء منهم إليه يؤهل بها في الشفاعة فيكم ولا أخبركم أحد منهم بشيء من ذلك، فكيف تخالفون في هذه الأمور التي هي أهم المهم، لأن عاقبتها خسارة الإنسان نفسه، فضلًا عما دونها عقولكم وما جرت به عوائدكم، وتتعللون فيها المحال، وتقنعون بقيل وقال، وتخاطرون فيه بالأنفس والأولاد والأموال.
ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر، فقال مستأنفًا مفسرًا للمراد بالاستواء: {يدبر الأمر} أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه، كما نظر في إقباله لإحكام فواتحه وعوازمه، لا يكل شيئًا منه إلى شيء من خلقه، قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهار القدرة، والعرش مظهر التدبير لا قعر المدبر.
ولما كان المقصود للعرب إنما هو تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفردًا: {من السماء} أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه {إلى الأرض} غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم.
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد، فكان بذلك مستبعدًا، أشار إلى ذلك بقوله: {ثم يعرج} أي يصعد الأمر الواحد- وهو من الاستخدام الحسن- إليه، أي بصعود الملك إلى الله، أي إلى المواضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى: {إني ذاهب إلى ربي} [الصافات: 99] {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله} [النساء: 100] ونحو ذلك، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير وهو السماء وكأنه صاعد في معارج، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم، في أسرع من لمح البصر {في يوم} من أيام الدنيا {كان مقداره} لو كان الصاعدين واحدًا منكم على ما تعهدون {ألف سنة مما تعدون} من سنيكم التي تعهدون، والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ، أما اللفظ فالتعبير بكان مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلًا، فإذا فرّغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءًا لا يعد، هذا وهو خلق محتاج فما ظنك بمن خلق الخلق في ستة أيام وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء وظاهر العبارة أن هذا التقدير بالألف لما بين السماء والأرض بناء على أن البداية والغاية لا يدخلان، فإذا أردنا تنزيل هذه الآية على أية سأل أخذنا هذا بالنسبة إلى صعود أحدنا مستويًا لو أمكن، وجعلت الأرض واحدة في العدد، وأول تعددها كما قيل باعتبار الأقاليم، وزيد عليه مقدار ثخن السماوات وما بينهما، وزيد على المجموع مثل نصفه لمسافة الانحناء في بناء الدرج والتعريج الذي هو مثل محيط الدائرة بالوتر الذي قسمها بنصفين ليمكن الصعود منا، وهو مقدار نصف مسافة الاستواء وشيء يسير، لأنك إذا قسمت دائرة بوتر كان ما بين رأسي الوتر من محيط نصف الدائرة بمقدار ذلك الوتر مرة ونصفًا سواء يزاد عليه يسير لأجل تعاريج الدرج، فإذا فعلنا ذلك كان ما بين أحد سطحي الكرسي المحدب وما يقابله من السطح الآخر بحسب اختراقه من جانبيه واختراق أطباق السماوات السبع: الأربعة عشر، اثنين وثلاثين ألف سنة، لأنه يخص كل سماء ألفان، لأنه فهم من هذا السياق أن من مقعر السماء إلى سطح الأرض الذي نحن عليه سيرة ألف سنة وبعد ما بين كل سمائين كبعد ما بين السماء والأرض، وثخن كل سماء كذلك، فيكون بعد ما بين أحد سطحي الأرض إلى سطح الكرسي الأعلى ستة عشر ألف سنة، وبعد ما بين سطح الأرض إلى أعلى سطح الكرسي من الجانب الآخر كذلك، ثم يزاد على المجموع وهو اثنان وثلاثون ألف سنة مسافة ثخن الأرض وهي ألف سنة ليكون المجموع ثلاثة وثلاثين ألف سنة يزاد عليه ما للتعريج، وهو نصف تلك المسافة وشيء يكون سبعة عشر ألف سنة، فذلك خمسون ألف سنة، وإنما جعلت سطح الكرسي الأعلى النهاية، لأن العادة جرت أن لا يصعد إلى عرش الملك غيره، وأن الأطماع تنقطع دونه، بل ولا يصعد إلى كرسيه، وسيأتي اعتبار ذلك في الوجه الأخير، وإن قلنا: إن الأراضي سبع على أنها كرات مترتبة متعالية غير متداخلة، وأدخلنا العرش في العدد فنقول: إنه مع الكرسي والسماوات تسعة، فجانباها الحيطان بالأرض ثماني عشرة طبقة، والأراضي سبع، فتلك خمس وعشرون طبقة، فكل واحدة- مع ما بينها وبين الأخرى على ما هو ظاهر الآية- ألفان، فضعف هذا العدد، فيكون خمسين ألفًا، وهذا الوجه أوضح الوجوه وأقربها إلى مفهوم الآية، ولا يحتاج معه إلى زيادة لأجل انعطاف الدرج، ويجوز أن نقول: إن السر- والله أعلم- في جعل ما مسيرته خمسمائة سنة- كما في الحديث- ألف سنة لأجل التعريج، والحديث ليس نصًا في سير معين حتى يتحامى تأويله بل قد ورد بألفاظ متغايرة منها خسمائة ومنها اثنتان وسبعون سنة ومنها إحدى وسبعون إلى غير ذلك فلابد أن يحمل كل لفظ على سير فنقول: الخمسمائة للصاعد في درج مستقيم كدرج الدقل مثلًا، والاثنان وسبعون لسير الطائر والألف كما في الآية لدرج منعطف، ويدل عليه ما رواه الترمذي- وقال: إسناده حسن- عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رصاصة مثل هذه- وأشار إلى مثل الجمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت السلسلة لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها» أو تقول: إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج- والله أعلم، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن بين الأرض والمساء خمسمائة سنة، وثخن السماء كذلك، وكذا بقية السماوات والعرش، أدخلنا العرش في العدد وقلنا: إن الأراضي سبع متداخلة كالسماوات، كل واحدة منها في التي تليها، فالتي نحن فيها أعلاها محيطة بها كلها، فهي بمنزلة العرش للسماوات، فتكون السماوات السبع من جانبيها بأربعة عشر ألفًا والأراضي كذلك فذلك ثمانية وعشرون ألفًا والعرش والكرسي من جانبيها بأربعة فذلك اثنان وثلاثون ألفًا يضاف إليها ما يزيد انحناء المعارج الذي يمكن لنا معه العروج، وهو نصف مسافة الجملة وشيء، فالنصف ستة عشر ألفًا، ونجعل الشيء الذي لم يتحرر لنا ألفين، فذلك ثمانية عشر ألفًا إلى اثنين وثلاثين، فالجملة خمسون ألفًا ويمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى السماوات مع الأراضي، والكل متطابقة متداخلة، فتلك ثمان وعشرون طبقة من سطح السماء السابعة الأعلى إلى سطحها الأعلى من الجانب الآخر، فذلك ثمانية وعشرون- ألف سنة، لكل جرم خمسمائة، ولما بينه وبين الجرم الآخر كذلك فذلك ألف فضعفه بالنسبة إلى الهبوط والصعود فيكون ستة وخمسين ألفًا حسب منه خمسون ألفًا والغى الكسر، لكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية التي في سورة سأل، وهي قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 5] فإنه ليس فيها ذكر الهبوط والله أعلم.
وكل من هذه الوجوه أقعد مما قاله البيضاوي في سورته سأل، وأقرب للفهم العرف، فإن كان ظاهر حاله أنه جعل الثمانية عشر ألفًا من أعلى سرادقات العرش إلى أعلى سرادقاته من الجانب الآخر ولا دليل على هذا ولا عرف يساعد في صعود الخدم إلى أعلى السرادق، وهو الأعلى منه، والعلم عند الله تعالى، وروى إسحاق بن راهويه عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين سماء الدنيا إلى الأرض خمسمائة سنة، وما بين كل سماء إلى التي تليها خمسمائة سنة إلى السماء السابعة، والأرض مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك» واعلم أن القول بأن الأراضي سبع هو الظاهر لظاهر قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن}.
[الطلاق: 12] ويعضده ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قدر شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» وفي رواية للبغوي: خسف به إلى سبع أرضين، وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن إذا حضره الموت- فذكره إلى أن قال: وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب به إلى الأرض فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ بها إلى الأرض السفلى» قال المنذري: وهو عند ابن ماجه بسند صحيح، ويؤيد من قال: إنها متطابقة متداخلة كالكرات وبين كل أرضين فضاء كالسماوات ما روى الحاكم وصححه عند عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأرضين بين كل أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة، فالعليا منها على ظهر حوت» إلى آخره، وهو في آخر الترغيب للحافظ المنذري في آخر أهوال القيامة في سلاسلها وأغلالها، وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث عن مجاهد رحمه الله أنه قال: إن الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأرضين السبع، وأنه رابع أربعة عشر بيتًا، في كل سماء بيت وفي كل أرض بيت لو سقطت لسقط بعضها على بعض- مناه يعني قصده وحذاءه، وفي مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي أن الإمام أحمد روى من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه إذا مرت سحابة فقال: هل تدرون ما هذه؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: العنان وزوايا الأرض يسوقه الله إلى من لا يشكره، ولا يدعوه، أتدرون ما هذه فوقكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: الرفيع موج مكفوف، وسقف محفوظ، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: أتدرون ما الذي فوقها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: سماء أخرى، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة خمسمائة عام- حتى عد سبع سماوات ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: والعرش، قال: أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: ما هذه تحتكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: أرض قال: أتدرون ما تحتها؟ قلنا الله ورسوله أعلم! قال: أرض أخرى، أتدرون كم بينهما؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبعين أرضين، ثم قال: وأيم الله لو دليتم بحبل لهبط، ثم قرأ: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3] قال: رواه الترمذي غير أنه ذكر أن بين كل أرض والأرض الأخرى خمسمائة عام، وهنا سبعمائة، وقال في آخره: «لو دليتم بحبل لهبط على الله» ولعله أراد: على عرش الله أو على حكمه وعلمه وقدرته، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجًا عن شيء من أمره- والله أعلم، ورأيت في جامع الأصول لابن الأثير بعد إيراده هذا الحديث ما نصه قال أبو عيسى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيدًا للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة- والله أعلم- ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاه» ولم يقل: كدرهم- مثلًا، وكذا ما روى محمد بن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه حديثًا طويلًا فيه ذكر الأنبياء، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تدري ما مثل السماوات والأرض في الكرسي؟ قلت: لا إلا أن تعلمني مما علمك الله عز وجل، قال: مثل السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وأصله عند النسائي والطيالسي وأبي يعلى، وكذا ما روى صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع في عظمة الله إلا كجوزة معلقة» وقوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} [البقرة: 255] يدل على أن الكرسي محيط بالكل من جميع الجوانب وقوله تعالى: {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] صريح في ذلك، فإن النفوذ يستعمل في الخرق لاسيما مع التعبير بمن دون في، وكذا قوله في السماء {ومالها من فروج} والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في ستَّة أَيَّامٍ}.
لما ذكر الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل، فقال: {الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} الله مبتدأ وخبره الذي خلق، يعني الله هو الذي خلق السموات والأرض ولم يخلقهما إلا واحد فلا إله إلا واحد، وقد ذكرنا أن قوله تعالى: {في ستَّة أَيَّامٍ} إشارة إلى ستة أحوال في نظر الناظرين وذلك لأن السموات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ولكل واحد منها ذات وصفة فنظرًا إلى خلقه ذات السموات حالة ونظرًا إلى خلقه صفاتها أخرى ونظرًا إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك ونظرًا إلى ذوات ما بينهما وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال وإنما ذكر الأيام لأن الإنسان إذا نظر إلى الخلق رآه فعلا والفعل ظرفه الزمان والأيام أشهر الأزمنة، وإلا فقبل السموات لم يكن ليل ولا نهار وهذا مثل ما يقول القائل لغيره: إن يومًا ولدت فيه. كان يومًا مباركًا.
وقد يجوز أن يكون ذلك قد ولد ليلًا ولا يخرج عن مراده، لأن المراد هو الزمان الذي هو ظرف ولادته.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} اعلم أن مذهب العلماء في هذه الآية وأمثالها على وجهين أحدهما: ترك التعرض إلى بيان المراد وثانيهما: التعرض إليه والأول أسلم والى الحكمة أقرب، أما أنه أسلم فذلك لأن من قال أنا لا أتعرض إلى بيان هذا ولا أعرف المراد من هذا، لا يكون حاله إلا حال من يتكلم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئًا لم يجب عليه أن يعلمه، وذلك لأن الأصول ثلاثة التوحيد والقول بالحشر والاعتراف بالرسل لكن الحشر أجمعنا واتفقنا أن العلم به واجب والعلم بتفصيله أنه متى يكون غير واحب، ولهذا قال تعالى في آخر السورة المتقدمة {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} [لقمان: 34] فكذلك الله يجب معرفة وجوده ووحدانيته واتصافه بصفات الجلال ونعوت الكمال على سبيل الإجمال وتعالىه عن وصمات الإمكان وصفات النقصان، ولا يجب أن يعلم جميع صفاته كما هي، وصفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن ترك التعرض إليه لم يترك واجبًا، وأما من يتعرض إليه فقد يخطىء فيه فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم، والثاني يكاد أن يقع في أن يكون جاهلًا مركبًا وعدم العلم الجهل المركب كالسكوت والكذب ولا يشك أحد في أن السكوت خير من الكذب، وأما إنه أقرب إلى الحكمة فذلك لأن من يطالع كتابًا صنفه إنسان وكتب له شرحًا والشارح دون المصنف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف، ولهذا كثيرًا ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلامه ويقول لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب عن علم قاصر كذلك، فما ظنك بالكتاب العزيز الذي فيه كل حكمة يجوز أن يدعي جاهل أني علمت كل سر في هذا الكتاب، وكيف ولو ادعى عالم اني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليه الكتاب الفلاني يستقبح منه ذلك، فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله؟ ثم ليس لقائل أن يقول بأن الله تعالى بين كل ما أنزله لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ولعل القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيه فبين له لا لغيره، إذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم، وهذا أقرب إلى ذلك الذي لا يعلم، للتشابه البالغ الذي فيه، لكن هذا المذهب له شرط وهو أن ينفي بعض ما يعلمه قطعًا أنه ليس بمراد، وهذا لأن قائلًا إذا قال إن هذه الأيام أيام قرء فلانة يعلم أنه لا يريد أن هذه الأيام أيام موت فلانة ولا يريد أن هذه الأيام أيام سفر فلانة، وإنما المراد منحصر في الطهر أو الحيض فكذلك هاهنا يعلم أن المراد ليس ما يوجب نقصًا في ذاته لاستحالة ذلك، والجلوس والاستقرار المكاني من ذلك الباب فيجب القطع بنفي ذلك والتوقف فيما يجوز بعده والمذهب الثاني: خطر ومن يذهب إليه فريقان أحدهما: من يقول المراد ظاهره وهو القيام والانتصاب أو الاستقرار المكاني وثانيهما: من يقول المراد الاستيلاء والأول جهل محض والثاني يجوز أن يكون جهلًا والأول مع كونه جهلًا هو بدعة وكاد يكون كفرًا، والثاني وإن كان جهلًا فليس بجهل يورث بدعة، وهذا كما أن واحدًا إذا اعتقد أن الله يرحم الكفار ولا يعاقب أحدًا منهم يكون جهلًا وبدعة وكفرًا، وإذا اعتقد أنه يرحم زيدًا الذي هو مستور الحال لا يكون بدعة، غاية ما يكون أنه اعتقاد غير مطابق، ومما قيل فيه: إن المراد منه استوى على ملكه، والعرش يعبر به عن الملك، يقال الملك قعد على سرير المملكة بالبلدة الفلانية وإن لم يدخلها وهذا مثل قوله تعالى: {وَقَالَت اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] إشارة إلى البخل، مع أنهم لم يقولوا بأن على يد الله غلا على طريق الحقيقة، ولو كان مراد الله ذلك لكان كذبًا جل كلام الله عنه، ثم لهذا فضل تقرير وهو أن الملوك على درجات، فمن يملك مدينة صغيرة أو بلادًا يسيرة ما جرت العادة بأن يجلس أول ما يجلس على سرير، ومن يكون سلطانًا يملك البلاد الشاسعة والديار الواسعة وتكون الملوك في خدمته يكون له سرير يجلس عليه، وقدامه كرسي يجلس عليه وزيره، فالعرش والكرسي في العادة لا يكون إلا عند عظمة المملكة، فلما كان ملك السموات والأرض في غاية العظمة، عبر بما ينبىء في العرف عن العظمة، ومما ينبهك لهذا قوله تعالى: {إنَّا خَلَقْنَا} [الإنسان: 2] {إنَّا زَيَّنَّا} [الصافات: 6] {نَحْنُ أَقْرَبُ} [ق: 16] {نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9] أيظن أو يشك مسلم في أن المراد ظاهره من الشريك وهل يجد له محملًا، غير أن العظيم في العرف لا يكون واحدًا وإنما يكون معه غيره، فكذلك الملك العظيم في العرف لا يكون إلا ذا سرير يستوي عليه فاستعمل ذلك مريدًا للعظمة، ومما يؤيد هذا أن المقهور المغلوب المهزوم يقال له ضاقت به الأرض حتى لم يبق له مكان، أيظن أنهم يريدون به أنه صار لا مكان له وكيف يتصور الجسم بلا مكان، ولاسيما من يقول بأن إلهه في مكان كيف يخرج الإنسان عن المكان؟ فكما يقال للمقهور الهارب لم يبق له مكان مع أن المكان واجب له، يقال للقادر القاهر هو متمكن وله عرش، وإن كان التنزه عن المكان واجبًا له، وعلى هذا كلمة ثم معناها خلق السموات والأرض، ثم القصة أنه استوى على الملك، وهذا كما يقول القائل: فلان أكرمني وأنعم علي مرارًا، ويحكي عنه أشياء، ثم يقول إنه ما كان يعرفني ولا كنت فعلت معه ما يجازيني بهذا، فنقول ثم للحكاية لا للمحكي الوجه الآخر: قيل استوى جاء بمعنى استولى على العرش، واستوى جاء بمعنى استولى نقلًا واستعمالًا.